الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون "بنظرية الفن للفن" يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكلّ مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار تصوّر معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصّة، يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة، فالذين يزعمون أنّهم يرفضون الالتزام لأنّه قيد على حرّية الأديب، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية، يلتزمون - سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، واعترفوا به أم لم يعترفوا - بقواعد ومبادئ.
وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي، وهو الوجه الآخر للصدق، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها، والفكر وما يتفاعل فيه، والخيال ما يضطرهم به، والروح وما ينبثق عنها، كلّها أمور خاصّة قد تميز أدبياً عن آخر، وتجعل من الإبداعات - شكلاً ومضموناً - تجارب لها صفة الخصوصية، على الرغم من أنّها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذلك.
لكن يدور الجدل عادةً حول ما يمكن تسميته "بالالتزام الخارجي" إن صح التعبير، ففي كلّ مجتمع قيود أو نُظم تم وضعها لتستقيم الحياة، وتتسق العلاقات، وهي أمور قانونية أو اقتصادية أو أخلاقية، وكثيراً ما يثور حولها الجدل، فقد يرى بعضهم فيها، غمطاً لحقوق الإنسان، أو كبتاً للحرّيات، أو جموداً في مجال التطوّر، وهي على النقيض مما يتصوّره واضعوها، والفنان يقف إزاء تلك النُّظم موقف التأييد، أو موقف الرفض، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملّص من هذه النُّظم بأسلوب أو آخر، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب، ويكون ذلك الالتزام أشد كلّما تصلّبت مواقف المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل، وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات، حيث يتحوّل الأديب - برغم أنفه - إلى بوق للسلطة التنفيذية، وترجمان لفلسفتها وقناعتها، وهنا تتضاءل حرّية الأديب، ويصبح الالتزام ضرباً من الالزام، ولعلّ هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقّاد إلى القول بأنّ الالتزام ينبع من الداخل، والالزام يأتي من الخارج، ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه، وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه.
لكن ماذا يعني الالتزام في الأدب الإسلامي؟
الالتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو "الطاعة".
والطاعة الحقيقة قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكلّ ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنّه وئام بين الإِنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها، وتصوّرات المؤمن لما يحيط الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كلّه هو كتاب الله وسُنة نبيّه (ص)، والنفس ليست قوّة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامي لا يتحقق دون جهد.
فهل هذا الالتزام داخلي أم خارجي؟
إنّه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إنّ التصور الإِسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنّه الكلّ في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتحاب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حبّاً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحوّل عبر التأمُّل والنظر الفاحص ترجمة صادقة لنِعَم الله وإبداعه وحكمته، إنّ منافذ الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن، فتعطي للوجود كماله وروعته، وتؤكد معنى الإيمان بالله.
والالتزام ليس نقيض الحرّية بمعناها الأصيل، إنّ مفهوم الحرّية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرّية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرّية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرّية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإنسانية السوية، ويبقى الإنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلقي، ولا بأس أن يتمرد أو يقتل أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقّه.. أعني حرّيته..
وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصّبها حاكم بمحض فكره وإرادته، إنّ تلك الضوابط والموازين من صُنع الخالق جلّ وعلا، وهي أحكام ليست مجال تحيّز أو افتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة طبقة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضوابط والموازين أو الأحكام هي من صُنع الخالق الرحيم العادل الذي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورُ) (غافر/ 19)، وهي في جملتها وحي (إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيّ يُوحَى) (النجم/ 4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا - وفق الحدود والعقوبات الشرعية - ولحساب الآخرة عند مَن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وحرّية المسلم في هذا الإطار، حقّ القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرّية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنفقه في حلال، وتعطي كلّ ذي حقّ حقّه (وآتُوهُم مِّن مِّالِ اللهِ الَّذِي آتاكُم) (النور/ 33).
والمعاشرة الجنسية حقّ في إطار المشروع، والسلطة حقّ في نطاق العدل الإلهي، ومراعاة حقوق العباد، والامتلاك حقّ دون اغتصاب أو استغلال أو جور، والاستمتاع والرفاهية حقّ دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالما لم تهدر حقوق الله أو العباد.
الالتزام في فكر المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرّية، فكيف يكون الالتزام الإسلامي نقيضاً للحرّية وهي جزء منه؟
والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحجراً.
وذلك لأنّه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية لله صدق وحقّ، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بما لا يحصى من النِعَم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عماده، والصدق أمانة والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحراف والظلم والفتن.
الحرّية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادّة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرّية.
والالتزام - في نطاق الحرّية الإسلامية - لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطّل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إبداعاً فنياً، إنّه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل الإنساني الخلّاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي - بلغة العلم - له اشتراطاته وضوبطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإنّ الحرية - إن صح التعبير - تحوطها اشتراطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكّل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره الأمثل في الحياة، ويوصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، ينطبق عليه قول الرسول (ص): "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
والالتزام الأمثل انبثاق تلقائي من قلب المؤمن وفكره ونفسه، وهو ليس تصوّراً هلاميَّاً، وهم ينافحون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله (ص)، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السليم لحركة الإنسان المؤمن في الحياة.
وعاش حُكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي على منصة القضاء وصاحب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطوّر صناعته، كذلك عاشه الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.
الالتزام فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للأدب رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً.
المصدر: كتاب مدخل إلى الأدب الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق